مجتمع

الديمقراطية الليبرالية تحت الاختبار: هل يعيد ترامب تشكيل النظام السياسي الأمريكي؟

إلى أي مدى يمكن للقانون أن يحمي نفسه من أن يتحول إلى أداة في يد السلطة؟ وكيف تمثل رئاسة دونالد ترامب اختبارًا حقيقيًا للنظام الديمقراطي الليبرالي؟

future الرئيس دونالد ترامب يتحدث إلى الصحفيين أثناء توقيعه على أوامر تنفيذية في مكتبه بالبيت الأبيض، الثلاثاء 4 فبراير 2025، في واشنطن. (صورة من وكالة أسوشيتد برس/إيفان فوتشي)

تطرح كيمبرلي ويل، أستاذة القانون في جامعة بالتيمور، إشكالية جوهرية حول قدرة النظام القضائي الأمريكي على ضبط السلطة التنفيذية عندما تتجاوز حدودها، عبر تسليطها الضوء على ممارسات ترامب بعد عودته الظافرة إلى البيت الأبيض. يحاول ترامب أن يوظف القضاء كأداة انتقامية، وذلك باستغلال النظام القضائي الأمريكي لملاحقة خصومه السياسيين. ما يضع النظام الديمقراطي الليبرالي أمام اختبار حقيقي.

تستند بنية النظام الديمقراطي الليبرالي إلى افتراضات تتعلق بحكم القانون وحيادية المؤسسات واستقلال القضاء. بيد أن التجربة التاريخية، قد لا تؤكد بالضرورة صلابة هذه الافتراضات أو قدرتها على الصمود أمام تحديات الواقع السياسي. يمثل كل انهيار جمهورية فايمار وصعود النازية، والحقبة المكارثية في الخمسينيات التي استخدمت لجان تحقيق غير عادلة، ومارست انتهاكات واسعة لحقوق كثر دون أدلة قانونية حقيقية أو محاكمات عادلة، وأخيرًا سقوط الجمهورية الرابعة في فرنسا، كلها أمثلة على أن هشاشة الافتراضات التقليدية للديمقراطية الليبرالية بأنها محصنة ضد التوظيف السياسي للقانون وحيادية المؤسسات عندما يواجه النظام الديمقراطي الليبرالي تهديدات حقيقية.

يستبطن نموذج النظام الديمقراطي الليبرالي معضلة تتمثل على شكل تناقض جوهري: فمن جهة تفترض أن القانون يوفر الأساس القانوني لضبط السلطة التنفيذية، ومن جهة أخرى، فإن من يضع القانون ويشرف عليه هي مؤسسات سياسية قابلة للاختراق والتوظيف لخدمة أجندة سياسية محددة. يعبر كارل شميدت عن هذه المعضلة عبر تساؤل نقدي: إلى أي مدى يمكن للقانون أن يحمي نفسه من أن يتحول إلى أداة في يد السلطة؟

تشير ويل إلى أن ترامب، رغم قيود القانون، يستطيع استغلال النظام القضائي للانتقام من خصومه. فالنظام الأمريكي مبني على افتراض حسن نية المدعين العامين والقضاة، في الوقت نفسه، يفتقد آليات حقيقية لحماية الأفراد من الملاحقات الانتقامية. لا يعني ذلك أن النظام القضائي ليس قادرًا بالمطلق على مقاومة النفوذ السياسي، إلا أن هشاشته تبرز بوضوح عندما يواجه رئيسًا خارجًا عن الأعراف التقليدية للديمقراطية الليبرالية.

إحدى الأدوات الرئيسية التي قد يستخدمها ترامب لتعزيز نفوذه، عبر حماية حلفائه ومعاقبة خصومه، هي العفو الرئاسي، وهو ما تتناوله ويل كجزء من استراتيجياته المحتملة لمواجهة أي محاولات قانونية لتقييده. الدستور الأمريكي يمنح الرئيس سلطة واسعة في العفو، لكن قرارات العفو قد تواجه طعونًا قانونية، خاصة إذا اعتُبرت إساءة لاستخدام السلطة. في المقابل، قد تتمكن المحاكم الفيدرالية من فرض قيود قانونية على قرارات العفو، لكنها لن تستطيع الحد من تداعياته السياسية. تشير ويل إلى أنه رغم وجود سوابق قضائية تتيح مراجعة القضايا ذات الطابع الانتقامي، فإن المحكمة العليا منحت السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة، مما يجعل الطعون ضد الملاحقات السياسية أكثر صعوبة. هذا يؤكد أن النظام القضائي ليس كيانًا محايدًا يعمل بمعزل عن السياسة، بل فضاء يُعاد فيه تفسير القانون وفقًا لتوازنات السلطة في لحظة معينة.

يمثل ترامب تهديدًا غير تقليدي للنظام الديمقراطي الليبرالي، فهو يتصرف وفق منطق الاستثناء الذي تحدث عنه شميدت. بحسب شميدت، السيادة ليست محصورة في تطبيق القواعد والقوانين، بل تتعدى ذلك إلى القدرة على تقرير متى يتم تعليقها، وربما حتى تجاوزها باسم الضرورة. عندما تكون السلطة التنفيذية قادرة على تجاوز القيود القانونية باسم الضرورة، فإنها تتحرر فعليًا من الضوابط الدستورية التي يفترض أن تحدّ منها. ولذلك لا غرابة في محاولات ترامب لتطويع النظام القضائي والقانوني لخدمة مصالحه، وخاصة أنه مدعوم بمحكمة عليا منحته حصانة واسعة. كل ذلك يثير تساؤلًا جادًا حول مدى مرونة النظام القضائي وقدرته على مواجهة رئيس يسعى لتطويعه.

لا يعني ذلك، على الأقل حتى الآن، أن الليبرالية تفتقر تمامًا إلى أدوات المقاومة. لأنها كما يرى فيلسوف القانون الشهير بول كان، ليست مجرد مجموعة قواعد قانونية جامدة، بل فضاءًا ديناميكيًا للصراع السياسي، تتفاعل فيه القوى المختلفة من أجل التأثير على تفسير القانون وتطبيقه. قد تكون المحكمة العليا منحازة إلى ترامب، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة أنها ستمنحه حرية التصرف المطلق. لكن بافتراض أنها فعلت، فيكون على ترامب مواجهة سلسلة من الآليات المؤسسية التي تملك، نظريًا، القدرة على احتواء نفوذه الرئاسي وعرقلة محاولاته لتسييس نظام العدالة مثل الكونجرس، المحاكم الأدنى، حكام الولايات، ثم الرأي العام.

التحدى الكبير يكمن في أن فعالية هذه الآليات في كبح تغول سلطة ترامب تتفاوت وفقًا للسياقات المختلفة. إذ لا يعتمد نجاحها وجودها القانوني فحسب، بل أيضًا مدى حصانتها تجاه الاستقطاب السياسي. إذ كلما تصاعد الاستقطاب، زادت احتمالات شلل المؤسسات وجعلها عرضة للتلاعب أو الانحياز.

في النهاية، تمثل رئاسة ترامب اختبارًا حقيقيًا للنظام الديمقراطي الليبرالي. إذا ترامب تمكن من توظيف النظام القضائي لملاحقة خصومه دون مقاومة قانونية فعالة، فسيكون ذلك مؤشرًا على هشاشة الأسس التي يقوم عليها النظام الديمقراطي الليبرالي، عندئذ يصبح القانون أداة بيد السلطة بدلًا من أن يكون قيدًا عليها. أما إذا تمكنت المؤسسات، مثل الكونجرس والمحاكم الأدنى، من تقييده، فسيعني ذلك أن النظام، رغم عيوبه، لا يزال يمتلك آليات مقاومة تمنع تطويعه من قبل السلطة التنفيذية.

ويظل السؤال مطروحًا بانتظار إجابة حاسمة: هل يمكن للنظام الديمقراطي الليبرالي أن يحافظ على استقلالية القانون في مواجهة سلطة تسعى إلى استخدامه لمصالحها، أم أن القانون، في نهاية المطاف، ليس سوى جزء من لعبة السيادة التي يحددها من يمتلك القدرة على فرض إرادته؟

# الولايات المتحدة الأمريكية # دونالد ترامب # سياسة

هل نستطيع محاربة الفاشية بالانتخابات؟ نظرة على صعود اليمين المتطرف في انتخابات 2024
بين الأدب والسياسة: بحثٌ في ذاكرة الألم
مذكرات بطرس غالي: التضحية بالقدس وفاء للنيل

مجتمع